ليس هناك ألطف من أن تكون جماعة ما مُستَعمِرة حضاريّة ومنفتحة. فحينما تتوافر شروط الحداثة بما تشمله من علائم الديموقراطية، والمدنية، والعولمة، والابتعاد السياسي والاجتماعي عن الدين والانفتاح على كافة أنواعه؛ يصير الاستعمار تفصيلاً هامشياً ومتقهقراً أمام كل هذا. يصبح همّ المجتمع أن يحيا التفاصيل اليومية متناسياً أعقاب الماضي، متذكراً خطواته الحاضرة الذاهبة إلى غدها لا غير. وليس أوفى على توثيق تلك الخطى من جرائد هذا الاستعمار، التي لا يقتصر عملها على توثيق وتدوين هذا الواقع، بل أيضاً على إنتاجه وإحالته لأمر مفروغ منه.
وهذه هي قصة جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، الواجهة التقدمية و«اليسارية» للمجتمع الإسرائيلي. عمر هذه الجريدة هو بعمر الحركة الصهيونية، أي عمرها بعمر الاستعمار الذي أنتجها. هي لحم من لحمه. تطوّرها مواز لتطور ونمو المشروع الصهيوني في فلسطين. وإن تكن إسرائيل ظاهرياً «ديموقراطية»، فلا صحافة حرّة ومستقلة فيها. في الحقيقة لا شيء مستقلاً حقاً في إسرائيل، ما عدا ـــ ربما ـــ أجهزة الاستخبارات. فالصحافة الإسرائيلية مكرسة ومبنية ومنصهرة بالكامل في الأيديولوجيا الصهيونية، وإن كانت الصحف الإسرائيلية تختلف في ما بينها بالمواضيع التي تسلّط الضوء عليها، وفي المواقف التي تبرزها دون غيرها.
ويتطبع الإعلام الإسرائيلي؛ نموذجاً ومحتوىً ولغةً بالإعلام الغربي، وذلك على غرار أشكال التطبع الغربية الأخرى التي يدأب عليها المجتمع الإسرائيلي لتحقيق مشروعه «الديموقراطي» الحداثي ليكتمل نضجه كعضو جدير بالمجتمع الغربي والعالمي. وهكذا تحرص جريدة «هآرتس» (وزميلاتها الأخريات) على تقليد خليلاتها الغربيات مثل «الغارديان» البريطانية و«النيويورك تايمز» الأميركية بتخصيص أقسام مختلفة في الجريدة لفئات مختلفة: طعام، ورحلات وغيرها. وإن كانت هذه التصنيفات والفئات تطلّ علينا بحلة جميلة مثيرة ولمّاعة كعارضات الأزياء، فإنّها ليست كذلك إلا لغرض التمويه والتحوّل عن السياقات السياسية والاجتماعية التي تدور الفعاليات في فلكها.
فلسطين: زوروها وافرحوا بها!
كثيرون منا من رأوا الملصق الذي يُظهر القدس بعلامتها الفارقة «قبة الصخرة» في خلفية بألوان تشبه الفترة الوردية لدى بيكاسو، داعياً بالخط العريض (بالإنكليزية) «زوروا فلسطين». لاحقاً، وبعد أن تنهمر دمعتان من العين على الضياع «واللي راح»، نمسحهما لنكتشف أن الملصق الذي رسمه فرانز كراوسز لم يكن إلا واحداً من إصدارات «مؤسسة فلسطين السياحية» ـــ وهي إحدى وكالات التطوير التابعة للحركة الصهيوينة ـــ وذلك سعياً منها لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين في مطلع القرن العشرين لبناء «البيت اليهودي» المستقبلي فيها.
إن مرور حوالى قرن من الزمان على تبنّي السياحة مشروعاً عضوياً من صلب المشروع الاستعماري الصهيوني، لم يقلّل أو يغيّر من موقع المنطق السياحي الاستشراقي كواحد من أهم تكتيكات المشروع الصهيوني، وإن باتت مهمته اليوم مضاعفة، فقبيل النكبة كان الهمّ الأساسي هو بناء المستقبل اليهودي ـــ الصهيوني في فلسطين، فيما بعدها (أيّ النكبة)، باتت هناك مهمة إضافية وتلك هي هدم الماضي؛ تحديداً الماضي الاستعماري، بما يعنيه ذلك من تاريخ المكان والزمان والانسان، وما بقي من كل هذا.
وهكذا في عددها الموسّع كعادتها أيام الجمعة، تنشر جريدة «هآرتس» الإسرائيلية قسماً يدعى «رحلات». ويتخصص القسم بنشر مقالات، تحليلات ونصائح عن أماكن تصلح «لمشاوير» الأفراد والعائلات الإسرائيلية، وفيما تخصص جزءاً من هذا القسم لرحلات في خارج البلاد، فإنها تتخصص بمجملها برحلات في «البلاد»، وذلك لتشجيع السياحة والتعلق بالأرض وحب الوطن.
«البحث عن الزمن المفقود»
في عددها الصادر يوم 24 تشرين الثاني 2011، نشرت «هآرتس» مقالة أدرجتها في قسم الرحلات تحت عنوان «في أعقاب القرى الفلسطينية الضائعة». كاتب المقالة، وهو الكاتب المعتمد في هذا القسم، الذي قد يكتب عن زيارة حديقة حيوانات جديدة أو منتجع للتزلج بنفس الروح التي يكتب بها عن زيارة «القرى الفلسطينية الضائعة»، كانت قد وصلت إلى يديه نسخة من الكتاب «حكاية بلد ـــ دليل مسارات»، الصادر أخيراً عن جمعية «زوخروت» (ذاكرات، أي تتذكرن)، وهي جمعية إسرائيلية تسعى إلى رفع الوعي والاعتراف في صفوف المجتمع الإسرائيلي بالنسبة إلى نكبة الشعب الفلسطيني. الكتاب مؤلف من 500 صفحة، ويظهر باللغتين: العبرية والعربية بترجمة لا ترقى لأن تكون صحيحة، بل تكاد تكون ركيكة وهشّة. وهو دعوة للمجتمع الإسرائيلي لزيارة الأماكن التي عادة ما يقوم بزيارتها دونما أي انتباه للمعالم الفلسطينية، التي لا تزال قائمة في المكان. هذا المشروع كغيره من مشاريع «زوخروت» هو مشروع جريء ومهم، لكن في سياقه ولناسه، حيث إن اللغة والدلالات المستعملة من قبل «زوخروت» مهّدت ــــ وإن دون قصد ـــ لقراءة هذا المشروع من قبل هآرتس كمشروع سياحي آخر. فعلاوة على الكتابة عن قرى فلسطينية مهدمة على هيئة «دليل سياحي»، الذي يمثل بحد ذاته صيغة مترددة وإقصائية، والتي لاقت الكثير من النقد عالمياً لكونها جزءاً من أدب الرحلات الاستعماري، هناك أيضاً الفيديو الذي أصدرته «زوخروت» لتسويق ونشر الكتاب، والذي يدعو إلى شرائه كهدية لطيفة وملائمة للأعياد! أضف إلى كلّ ذلك أن اسم الكتاب بالعبرية هو (بالصدفة أو بغيرها) استعارة لعنوان قصيدة للكاتب اليهودي الصهيوني «شاؤول طشيرنوحفسكي»، الذي يعني حرفياً «يقولون هناك بلد». وفي قصيدته هذه يتحدث الشاعر بإلهام من العقيدة الصهيونية عن الطريق إلى «أرض الميعاد»: أين هي الطريق اليها ومن يدّلنا عليها. هذه الاستعمالات جميعها، إن كانت تدل على شيء، فعلى الحاجة إلى اعتماد لغة خاصة «برّاقة» وجذابة لجذب المجتمع الإسرائيلي للتعرف على «غيره»، ورغم أن ذلك تكتيكياً قد يكون مجدياً على المدى القصير، من حيث جذب عدد من الإسرائيليين للتعرف على الجانب الآخر «لإسرائيل»، فإنه يعمل على إنتاج صور ومعرفة ومعلومات طويلة الأمد، تهدف أولاً وأخيراً إلى إقصاء فلسطين عن الحاضر وعن الحيز الذي بات يقتصر على «إسرائيل»، عبر استهلاكها كسلعة سياحية لا غير، وفي ذات الوقت بناء معجم لغوي غربي يتلاءم والصورة التي تسعى إسرائيل إلى تصنيعها عن نفسها، ومن ثم استهلاكها محلياً وعالمياً.
لشرح هذا المدّ الاستعماري السياحي، يجدر بنا أولاً الوقوف على ما تعنيه هذه المقالات السياحية بطبيعة الحال. فهي تهدف أولاً وأخيراً إلى إغراء القارئ بالذهاب إلى الأماكن الموصوفة والتمتع بها، استهلاكها ورؤيتها بعينَي كاتب المقالة. وبناءً عليه، فإن معجم الكاتب عادة ما يفتقد مفردات سياسية أو اجتماعية أو تاريخية من شأنها أن «تكُش» السائح من الموقع المُراد له زيارته. وعليه فإن تناقضاً كبيراً ـــ للوهلة الأولى ـــ قد يتبدّى من دعوة المجتمع الإسرائيلي عبر قسم «الرحلات» إلى زيارة القرى الفلسطينية المهدومة بما تحمله هذه المواقع من تاريخ وحاضر ومستقبل يستحضر أسئلة سياسية وأخلاقية جمّة.
وإن قُلت إنّ تناقضاً قد يبدو للوهلة الأولى، فذلك لأنّه لا يمكن الكتابة عن القرى والمدن المهجرة بصفتها السياسية والتاريخية والأخلاقية الفلسطينية، وفي ذات الوقت إقناع القارئ بالذهاب إلى هناك إلا عبر اختيار صيغة من بين اثنتين: سياحية أو سياسية. وتفضيل المعجم الأول لا يتناقض مع المشروع الصهيوني ومواقف غالبية المجتمع الإسرائيلي من فلسطين المحتلة؛ قرى كانت أم مدناً، صامدة كانت أم مدمرّة. بل على العكس، فإن التطبيع مع كونها أصبحت شيئاً من الماضي هو جزء من مشروع الصحيفة كامتداد لمشروع بناء المجتمع الإسرائيلي على كافة أطيافه ومركباته. بل بالإمكان القول إنّ إدراج القرى الفلسطينية المدمرة كجزء من مشروع ترحال «محلي» هو تلميح ينقصه الذوق الرفيع والخجل، لتحديد هوية صاحب البيت.
فمثلاً يقوم الكاتب بزيارة للمستوطنة اليهودية «دور»، التي أقيمت على أنقاض قرية الطنطورة، وقد اختارها هي تحديداً لكونها المنتجع البحري الأحب إلى والديه، والذي قضى فيه الوقت الكثير من طفولته. إلّا أنّ الكتابة عن الطنطورة تستحضر حالاً الحديث عن المجزرة التي ارتكبتها قوات «الهاغاناه» الصهيونية بحق سكان البلدة في نيسان عام 1948. لا يمكن التغاضي عن مجزرة الطنطورة، التي أثار الكشف عنها الكثير من الضجة والرفض في وسط المجتمع الإسرائيلي، وذلك كما في كل مرة نمسكهم فيها «من يدهم التي توجعهم». ولئلا تعفّ نفس الزائر عن الزيارة، فإن الكاتب يأتي على ذكر المجزرة عن طريق النفي وبلسان الآخر الغائب المتباهي بالعسكرة الصهيونية، ذلك هو والده الذي كان أحد مقاتلي كتيبة إسكندروني التي ارتكبت مجزرة الطنطورة: الوالد يرفض وينفي ويغضب ويتباهى بالإصابة التي تلقاها في تلك «المعركة». ما يؤمّن منفذاً لبقاً وآمناً للكاتب للخروج من ورطة التفاصيل، واستغلالها لتصير ورقة رابحة في يده لجذب الإسرائيلي الصهيوني لزيارة المكان.
هكذا تصبح الطنطورة موقعاً سياحياً ومنتجعاً ترفيهياً، وذكر المجزرة أو مقبرة القرية التي أقيم عليها موقف السيارات التابع للمستوطنة، لا يمنع ذكر معلم آخر مهم ومثير ـــ وربما أهم وأكثر إثارة ـــ ذاك هو معمل النبيذ الذي أقامه البارون روتشيلد بجوار الطنطورة في أواخر القرن التاسع عشر. هذه الموازنة بين «المعالم» الفلسطينية والمعالم الصهيونية ـــ اليهودية يتكرر في وصف زيارة قرية عين لام المجاورة، فمن يأتِ بامكانه الاطلاع على آثار القرية الفلسطينية المهدمة ـــ ولم يبق منها الكثير ـــ لكنه بالتأكيد سيرى ويشهد المعالم اليهودية، مثل نصب تذكاري تخليداً لمن لقوا حتفهم في المحرقة النازية. كيف نستطيع تفسير هذه المقابلة اللأخلاقية إلا كمحو أثر لإثبات آخر، ليس بأكثر من مقالة سياحية «حيادية».
إن تهميش «فلسطينية» المكان إن صحّ التعبير، وإقصاءها عن «المعلم السياحي»، يستوجبان استعمال عامل غربي ودخيل، فإن لم يتوافر الصهيوني يُستورد «الغربي» ليحل محله. عين حوض، القرية الجميلة على سفوح جبل الكرمل، احتلتها جماعة من «الفنانين» الصهاينة في خمسينيات القرن الماضي وسكنت في بيوتها التي لم تسوَّ بالأرض كغيرها، وأقامت فيها مستوطنة «فنانين» كأن الفن يشفع لهم استعمارها! أهالي القرية لم يذهبوا بعيداً، فقد أقاموا قرية سموها «عين حوض الجديدة» بعدما منعوا من العودة إلى بيوتهم ـــ ربما لأنهم ليسوا هواة فن أو ثقافة! كاتب المقالة يسرد هذه التفاصيل ثم يوصي بزيارة مطعم «البيت» في عين حوض الجديدة، فهو «مطعم ممتاز يقدم طعاماً عربياً، والمشهد من هناك هو مشهد سويسري»! «والسويسري» هذه ليست من إبداعات الكاتب وحده، بل أصبحت جزءاً من وصف الإسرائيليين لجبل الكرمل، فإحدى أجمل مناطق جبل الكرمل المتاخمة لحيفا حوّلتها سلطة السياحة الإسرائيلية إلى «بارك» قومي، سُمّي جزء منه «سويسرا الصغرى»، كأنّ جمال فلسطين الأصيل والساحر يدقّ على أعصابهم، ما اضطرهم إلى تسميته سويسرا.
القدس: مملكة الأطعمة!
لم تمضِ أسابيع قليلة، وإذا بالجريدة المخضرمة (بعلم الاستعمار) تطلّ علينا من جديد، هذه المرة تحت قسم «أطعمة». وروت لنا عن تجربة نشوة لا مثيل لها؛ تلك هي تجربة تذوق أطعمة في «القدس الشرقية». المقالة اسمها «أيام بداية الشتاء في صلاح الدين». شارع صلاح الدين هو من أقدم الشوارع المقدسية التي امتدت إلى خارج أسوار المدينة، لتربط الأخيرة مع العمران الذي ما فتئ يحيط بها. الشارع يعدّ تجسيداً حيّاً للاستعمار، علماً بأنه عقب احتلال عام 1967 سيطر الإسرائيليون على مبنى محافظة القدس، وحوّلوه مركزاً لوزارة العدل، ثم احتلوا مبنى المحكمة وحوّلوه إلى محكمتهم. علاوة على ذلك، فإنّ هناك مخفراً للشرطة الإسرائيلية في أول الشارع!
تستهلّ الكاتبة مقالتها بوصف «شرق القدس» كمملكة أطعمة أسوة بممالك الأطعمة الأخريات في العالم. من هنا تبدأ الكاتبة بعملية إقصاء القدس عن سياقها السياسي والتاريخي والاجتماعي، الذي يميزها عن «مملكة أطعمة أخرى» كباريس مثلاً! ما يعنيه تحويل القدس المحتلة عام 1967 إلى وجهة طبيعية للسياحة الإسرائيلية، وموقع مثير للكتابة السياحية، هو إشارة إلى نقطة تحوّل غاية في الخطورة، حيث إن مثل هذا التصنيف يرى أنّ القدس قد باتت سهلة المنال من باب «ادخلوها آمنين». هذا التصنيف المنضوي تحت راية السياحة والترفيه هو الانتقال السياسي من فترة عدم هدوء وارتباك أمني إلى اعلان التمكن من المدينة ومن فلسطين عامة. وهنا نسأل هل كان بالإمكان الكتابة عن القدس العربية بهذه الطريقة أثناء الانتفاضة الأولى؟ أو الثانية؟ أو هل بالإمكان الكتابة عن بلعين أو مخيم عايدة أو الخليل أو نابلس بذات الطريقة؟
إن هذه النقلة (النوّعية) ليست أمنية ـــ لوجيستية فحسب، بل هي أيضاً تستحضر أسئلة عن سياسة التلاعب بالوقت عند المستعمر الصهيوني. إنها تشير إلى تجزئة الحاضر بين أرجاء فلسطين التاريخية المختلفة. فحيفا باتت «مستباحة» بفعل المدة الزمنية الطويلة التي مضت عليها منذ احتلالها، فلا يبدو مثلاً مهرجان عيد الأعياد، الذي تقيمه بلدية حيفا سنوياً في حيّ وادي النسناس العربي بغالبيته، موضع حاجة إلى تعريفه وتسليع حيفا كموقع سياحي، علماً بأنّ حيفا أصبحت في نظر المستعمر الصهيوني حصناً حصيناً، خلافاً للقدس العربية مثلاً.
[جانب من الحضور في مهرجان "عيد الأعياد" في وادي النسناس في حيفا]
مهرجان “عيد الأعياد” في حي وادي النسناس في حيفا
وللتأكيد وللإشارة على أن القدس باتت مرتعاً إسرائيلياً وليس منطقة تابعة "للآخر" الفلسطيني، تقوم كاتبة المقالة بمقارنة القدس العربية مع تل أبيب، والمساواة بينهما كمدينتين شقيقتين – " ففي حين يباع كيلو القهوة في "مركز تل أبيب" بأسعار تتراوح بين 110-180 شاقل (30-50 دولاراً)، فإن كيلو قهوة –لا تقل جودة- يباع في دكانة أحمد صندوقة التي أقيمت في العام 1943، بسعر 50 شاقل للكيلو (15 دولاراً)". ولجعل كل هذا أمراً محسوساً وملموساً وسهل المنال، فإن كاتبة المقالة تضيف عناوين وأرقام هواتف المحال التجارية المشار اليها.
وكما أسلفنا، فإن الكتابة السياحية تعمل على تمويه الحاضر والماضي، فتستقصي أسماء وتواريخ وعناوين وتفاصيل أخرى قد تدل على السياق الذي يدور بفلكه هذا الحيز. فيمحو هذا الوصف آثار "الآخر" ويلغي كيفية وصوله إلى الحاضر وتحوّله لمتاح ومتوفر "لاستهلاك" السائح المستعمِر. ومع أن الحيز الذي تشتهي كاتبة المقالة لقرائها أن يزوروه، يملؤه الفلسطينيون من كل صوب وحدب: نساء ورجال، شيوخ وشباب، من القرية ومن المدينة، فإن ذكرهم في المقالة لا يتعدى وصفهم كأشياء تكوّن المكان والتجربة لا أكثر – من بائعي خضراوات يفرشون بضاعتهم على الرصيف إلى نسوة جئن من القرى المتاخمة للقدس وملأنَ الطريق بأكوام الخبيزة والميرمية إلى شراة وباعة ومارة – كل ذلك دون ذكر لكلمة “فلسطيني” البتة. من هم هؤلاء؟ هل يكفي ذكر القدس الشرقية حتى نفهم أن الحديث هو فقط عن الفلسطيني "الآخر"، لذلك فلا حاجة حتى لذكره؟ من هنَّ هؤلاء النسوة؟ وما هي القرى المتاخمة؟ وكيف يأتين الى القدس؟ لا أحد يعلم. وأصحاب المحلات التجارية، هل من يذكر قرار بلدية القدس منعهم من الكتابة بالعربية على لافتات محلاتهم أو الإغلاقات المتكررة والضرائب الباهظة التي أودت بالكثير من هذه المحال للإغلاق التام. والجدار؟ والحواجز؟ والمستوطنات؟ وسرقة الآبار الجوفية الفلسطينية؟ ذكر الفلسطيني من شأنه أن يخرج كل هذا من القمقم.
الفلسطيني بنظر الإسرائيلي-الصهيوني هو شيء، حصل وشاءت الظروف أن يتواجد في شارع صلاح الدين المقدسي في أوائل فصل الشتاء ليبيع التمرهندي لذواقة عطشى.
بذخ مقابل بذخ؟
[تصميم ستوديو زان]
هل من البذخ الكتابة عن السياحة الاستشراقية، ولم يمض سوى وقت قليل من الحرب على غزة؟ هل بات الحديث في الشؤون الفلسطينية مرهوناً بسلم أولويات تحدده حدّة البربرية الإسرائيلية، التي قد تستنزف في أوجها كل ما لنا من معنى على هذه الأرض؟ إنّ طرح هذه الأسئلة يأتي ليغلق الدائرة التي انطلقت منها، التفاصيل الحياتية اليومية للاستعمار قد تختلف من فترة زمنية إلى أخرى، وإن كان حاضر غزة يختلف بشدة عن حاضر جنين، أو القدس، أو حيفا، أو صفد، أو النقب، أو قرى الجليل أو قرى المثلث، فالاستعمار واحد.
ونحن إذ ننتقد، فليس بهدف تغيير المجتمع الإسرائيلي. فذاك هو المجتمع الاستعماري، تلك هي طبيعته ولا يمكن تغيير تفاصيله دون تغييره كله كمؤسسة. لا، الهدف الأساسي هو عدم السماح للاستعمار بالانسياب بيننا، متخفياً كدليل سياحي أو ذواقة أو صحفي أو محرر. علينا أن نعلم الاستعمار بأننا ندري بوجوده. نعرفه، ونميزه وإن تقنّع وتخفّى. وأن نقف له بالمرصاد عبر إزالة الصدأ عن تاريخ فلسطين، وعن حاضرها لكي لا تصير لقمة سائغة للاستهلاك المحلي الاستعماري.
[ينشر هذا المقال بالإتفاق مع الكاتبة وهذه صيغة معدلة للمقال الذي نشر للمرة الأولى في جريدة "الأخبار" اللبنانية.]
مراجع:
Behdad٬ Ali. 2004. Belated Travelers
Orientalism in the Age of Colonial Dissolution
Duke University Press: Durham and London.